الجمعة، 29 ديسمبر 2017

الإرادة الذاتية في تحديد الشخصية

الإرادة الذاتية في تحديد الشخصية

يثبت العلم وجود عدد من الحتميات الفيزيائية والنفسية وأخرى اجتماعية تتدخل في سلوك الفرد وفي تحديد ميزاته الجسدية والوجدانية والنزوعية والعقلية التي يختص بها عن غيره من الأشخاص، لكن هذا يدفع للتساؤل عن دور إرادة الإنسان في تحديد تلك الجوانب ورسم الشخصية، فمنذ القدم لاحظ بعض العلماء والفلاسفة وجود رابط بين بعض الصفات السلوكية والصفات الجسمانية ورأوا أن الصفات السلوكية تحددها الصفات الجسمانية تحديداً يزيح كل قدرة للإنسان على اختيار سلوكه، وبهذا الوضع تصبح الشخصية شيئاً يرثه الإنسان بلا تدخل منه كما يرث خصائصه الجسمانية.
أخذ تفسير السلوك البشري حيزاً كبيراً في العلم وازداد الانتباه إليه أكثر بعد دراسات نشرها عالم النفس الهولندي هيمانس بمعاونة رفيق له بحيث أرجع فيها السلوك إلى عاملين وراثيين بالأصل هما الانفعالية وقابلية الإنسان للتأثر، وفي هذه الحالة تخرج الشخصية وفقاً لنوع الطباع الموروثة بالولادة ولا دخل لإرادة الإنسان الذاتية بها، وهناك أيضاً أبحاث البيولوجيا التي أوضحت دور الغدد والهرمونات بهذا الصدد في بناء الشخصية، وبالنسبة لحقل علم الاجتماع فثمة علماء يؤمنون بتأثير المجتمعات والمحيط الثقافي ومجموع التقاليد الموجودة في تعيين سلوكيات الأفراد وتكريس بعض الصفات لديهم، وبالتالي تتعطل إرادة الإنسان في تحديد شخصيته.
وفقاً لكل هذه الدلائل التي تتكئ على العلوم والتجارب يصبح من غير المقبول نفي الدور الحيوي والعامل الاجتماعي في تخطيط السلوك، لكن الشخصية التي تعبر عن السلوك الإنساني تتجاوز ذلك إلى أمر آخر لا نجده إلا في الإنسان وهو العقل مصدر إرادته وقدرته على التعديل والتغيير والاختيار، هناك حتميات لكنها لا تكفي لتحديد السلوك ورسم الشخصية، والدليل تبدّل سلوك بعض الأشخاص من مجرد مواعظ أو كتب أو دروس بما تمليه عقولهم وقناعاتهم وفي فارق توقيت بسيط لا يكفي لأن نقول بأن ثمة تغيراً طرأ على هرمونات الشخص أو دوافع اجتماعية أجبرته على اعتناقها، هناك قدرة بشرية على التحكم في الذات والسيطرة على النفس والاستقلال عن كل قوة خارجية وتوجيه مسار الحياة، ودور الإنسان في رسم شخصيته يتوقف على قوة الإرادة النابعة من ذاته من ضعفها، كما لزم ملاحظة أن تماثل العوامل البيولوجية لا يخلق شخصيات متماثلة، والأمر ينطبق على تماثل الظروف الاجتماعية التي لا تمنح الجميع صفات موحدة، نعم هناك عوامل بيولوجية واجتماعية تتدخل في عملية بناء الشخصية لكنها لا تلغي أبداً دور الإرادة الذاتية للإنسان في هذه العملية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق