الجمعة، 29 ديسمبر 2017

الفلسفة الاسلامية و مناهلها الفكرية

الفلسفة الاسلامية و مناهلها الفكرية

تمهيد :
الفلسفة الإسلامية مصطلح عام يمكن تعريفه واستخدامه بطرق مختلفة، فيمكن للمصطلح أن يستخدم على انه الفلسفة المستمدة من نصوص الإسلام بحيث يقدم تصور الإسلام ورؤيته حول الكون والخلق والحياة والخالق. لكن الاستخدام الاخر الأعم يشمل جميع الأعمال والتصورات الفلسفية التي تمت وبحثت في إطار الثقافة العربية الإسلامية والحضارة الإسلامية تحت ظل الإمبراطورية الإسلامية من دون أي ضرورة لأن يكون مرتبطا بحقائق دينية أو نصوص شرعية إسلامية. في بعض الأحيان تقدم الفلسفة الإسلامية على أنها كل عمل فلسفي قام به فلاسفة مسلمون. نظرا لصعوبة الفصل بين جميع هذه الأعمال ستحاول المقالة ان تقدم رؤية شاملة لكل ما يمت للفلسفة بصلة والتي تمت في ظل الحضارة الإسلامية.
 مفهوم الفلسفة في الإسلام
أقرب كلمة مستخدمة في النصوص الإسلامية الأساسية (القرآن والسنة) لكلمة فلسفة هي كلمة (حكمة)، لهذا نجد الكثير من الفلاسفة المسلمين يستخدمون كلمة (حكمة) كمرادف لكلمة ( فلسفة ) التي دخلت إلى الفكر العربي الإسلامي كتعريب لكلمة Philosophy اليونانية. وإن كانت كلمة فلسفة ضمن سياق الحضارة الإسلامية بقيت ملتصقة بمفاهيم الفلسفة اليونانية الغربية، فإن عندما نحاول ان نتحدث عن فلسفة إسلامية بالمفهوم العام كتصور كوني وبحث في طبيعة الحياة : لا بد أن نشمل معها المدراس الأخرى تحت المسميات الأخرى : وأهمها علم الكلام وأصول الفقه وعلوم
و أهم ما يواجه الباحث أن كلا من هذه المدارس قد قام بتعريف الحكمة أو الفلسفة وفق رؤيته الخاصة واهتماماته الخاصة في مراحل لاحقة دخل المتصوفة في نزاعات مع علماء الكلام والفلاسفة لتحديد معنى كلمة الحكمة التي تذكر في الأحاديث النبوية وكثيرا ما استخدم العديد من أعلام الصوفية لقب (حكيم) لكبار شخصياتهم مثل الحكيم الترمذي. بأي حال فإن لقب (فيلسوف/فلاسفة) ظل حصرا على من عمل في الفلسفة ضمن سياق الفلسفة اليونانية ومن هنا كان أهم جدل حول الفلسفة هو كتابي (تهافت الفلاسفة للغزالي وتهافت التهافت لابن رشد.)
بدايات الفلسفة الإسلامية
إذا اعتبرنا تعريف الفلسفة على أنها محاولة بناء تصور ورؤية شمولية للكون والحياة، فإن بديات هذه الأعمال في الحضارة الإسلامية بدأت كتيار فكري في البدايات المبكرة للدولة الإسلامية بدأ بعلم الكلام ، ووصل الذروة في القرن التاسع عندما أصبح المسلمون على إطلاع بالفلسفة اليونانية القديمة والذي أدى إلى نشوء رعيل من الفلاسفة المسلمين الذين كانوا يختلفون عن علماء الكلام.
علم الكلام كان يستند أساسا على النصوص الشرعية من قرآن وسنة وأساليب منطقية لغوية لبناء أسلوب احتجاجي يواجه به من يحاول الطعن في حقائق الإسلام، في حين أن الفلاسفة المشائين، وهم الفلاسفة المسلمين الذين تبنوا الفلسفة اليونانية، فقد كان مرجعهم الأول هو التصور الأرسطي أو التصور الأفلوطيني الذي كانوا يعتبرونه متوافقا مع نصوص وروح الإسلام. و من خلال محاولتهم لاستخدام المنطق لتحليل ما إعتبروه قوانين كونية ثابتة ناشئة من إرادة الله، قاموا بداية بأول محاولات توفيقية لردم بعض الهوة التي كانت موجودة أساسا في التصور لطبيعة الخالق بين المفهوم الإسلامي لله والمفهوم الفلسفي اليوناني للمبدأ الأول أو العقل الأول.
تطورت الفلسفة الإسلامية من مرحلة دراسة المسائل التي لا تثبت إلا بالنقل والتعبّد إلى مرحلة دراسة المسائل التي ينحصر إثباتها بالأدلة العقلية ولكن النقطة المشتركة عبر هذا الإمتداد التأريخي كان معرفة الله وإثبات الخالق [2]. بلغ هذا التيار الفلسفي منعطفا بالغ الأهمية على يد ابن رشد من خلال تمسكه بمبدأ الفكر الحر وتحكيم العقل على أساس المشاهدة والتجربة [3]. أول من برز من فلاسفة العرب كان الكندي الذي يلقب بالمعلم الأول عند العرب، من ثم كان الفارابي الذي تبنى الكثير من الفكر الأرسطي من العقل الفعال وقدم العالم ومفهوم اللغة الطبيعية. أسس الفارابي مدرسة فكرية كان من أهم اعلامها : الأميري والسجستاني والتوحيدي. كان الغزالي أول من أقام صلحا بين المنطق والعلوم الإسلامية حين بين أن أساسيب المنطق اليوناني يمكن ان تكون محايدة ومفصولة عن التصورات الميتافيزيقية اليونانية. توسع الغزالي في شرح المنطق واستخدمه في علم أصول الفقه، لكنه بالمقابل شن هجوما عنيفا على الرؤى الفلسفية للفلاسفة المسلمين المشائين في كتاب تهافت الفلاسفة، رد عليه لاحقا ابن رشد في كتاب تهافت التهافت.
في إطار هذا المشهد كان هناك دوما اتجاه قوي يرفض الخوض في مسائل البحث في الإلهيات وطبيعة الخالق والمخلوق وتفضل الاكتفاء بما هو وارد في نصوص الكتاب والسنة، هذا التيار الذي يعرف "بأهل الحديث" والذي ينسب له معظم من عمل بالفقه الإسلامي والاجتهاد كان دوما يشكك في جدوى أساليب الحجاج الكلامية والمنطق الفلسفية. و ما زال هناك بعض التيارات الإسلامية التي تؤمن بأنه "لا يوجد فلاسفة للإسلام"، ولا يصح إطلاق هذه العبارة، فالإسلام له علماؤه الذين يتبعون الكتاب والسنة، أما من اشتغل بالفلسفة فهو من المبتدعة الضُّلال" .
في مرحلة متأخرة من الحضارة الإسلامية، ستظهر حركة نقدية للفلسفة أهم أعلامها : ابن تيمية الذي يعتبر في الكثير من الأحيان أنه معارض تام للفلسفة وأحد أعلام مدرسة الحديث الرافضة لكل عمل فلسفي، لكن ردوده على أساليب المنطق اليوناني ومحاولته تبيان علاقته بالتصورات الميتافيزيقية (عكس ما أراد الغزالي توضيحه) وذلك في كتابه (الرد على المنطقيين) اعتبر من قبل بعض الباحثين العرب المعاصرين بمثابة نقد للفلسفة اليونانية أكثر من كونه مجرد رافضا لها، فنقده مبني على دراسة عميقة لأساليب المنطق والفلسفة ومحاولة لبناء فلسفة جديدة مهدت للنقلة من واقعية الكلي إلى اسميته.
[
عدل] التناقض مع الفلسفة اليونانية
كان مفهوم الخالق الأعظم لدى الفلاسفة اليونانيين يختلف عن مفهوم الديانات التوحيدية. فالخالق الأعظم في منظور أرسطو وأفلاطون لم يكن على إطلاع بكل شيء ولم يظهر نفسه للبشر عبر التاريخ ولم يخلق الكون وسوف لن يحاسبهم عند الزوال وكان أرسطو يعتبر فكرة الدين فكرة لاترتقي إلى مستوى الفلسفة.
طاليس أو تاليس يعتبره البعض أول الفلاسفة اليونانيمكن تقسيم الفلسفة اليونانية القديمة بصورة عامة إلى مرحلتين:
مرحلة ماقبل سقراط التي إتسمت برفضها للتحليلات الميثولوجية التقليدية للظواهر الطبيعية وكان نوع التساؤل في حينها ( من أين أتى كل شيء ؟) وهل يمكن وصف الطبيعة باستعمال قوانين الرياضيات وكان من اشهرهم طاليس الذي يعتبره البعض أول فيلسوف يوناني حاول إيجاد تفسيرات طبيعية للكون والحياة لاعلاقة لها بقوى إلهية خارقة فعلى سبيل المثال قال ان الزلازل ليس من صنيعة إله وإنما بسبب كون الأرض اليابسة محاطة بالمياه وكان أناكسيماندر أيضا من ضمن هذا الرعيل وكان يؤمن بالقياسات والتجربة والتحليل المنطقي للظواهر وكان يعتقد ان بداية كل شيء هي كينونة لامتناهية وغير قابلة للزوال وتتجدد باستمرار، من الفلاسفة الآخرين في هذا الجيل، بارمنيدس، ديمقراطيس، أناكسيمين ميلتوسي. مرحلة سقراط وما بعده والتي تميزت باستعمال طريقة الجدل والمناقشة في الوصول إلى تعريف وتحليل وصياغة أفكار جديدة وكان هذا الجدل عادة مايتم بين طرفين يطرح كل طرف فيهما نظرته بقبول أو رفض فكرة معينة وبالرغم من أن سقراط نفسه لم يكتب شيئا ملموسا إلا ان طريقته أثرت بشكل كبير على كتابات تلميذه أفلاطون ومن بعده أرسطو.من وجهة نظر أفلاطون فإن هناك فرقا جوهريا بين المعرفة والإيمان فالمعرفة هي الحقيقة الخالدة أما الإيمان فهو إحتمالية مؤقتة [7] أما أرسطو فقد قال إنه لمعرفة وجود شيء ما علينا معرفة سبب وجوده ووجود أو كينونة فكرة الخالق الأعظم حسب أرسطو هو فكرة التكامل والمعرفة على عكس فكرة المخلوق الباحث عن الكمال ولتوضيح فكرته أورد أرسطو مثال التمثال وقال ان هناك 4 أسباب لوجود تمثال :
اسباب مادية مرده إلى المادة التي صنع منها التمثال.
اسباب غرضية مرده إلى الغرض الرئيسي من صنع التمثال.
اسباب حرفية مرده الشخص الذي قام بصنع التمثال.
اسباب إرضائية مرده الحصول على رضا الشخص الذي سيشتري التمثال .
استفاد أرسطو من نظرية سقراط القائلة إن كل شيء غرضه مفيد لابد ان يكون نتيجة لفكرة تتسم بالذكاء وإستنادا إلى هذه الفكرة إستنتج أرسطو ان الحركة وإن كانت تبدو عملية لا متناهية فإن مصدرها الثبات وإن هذه الكينونة الثابتة هي التي حولت الثبات إلى حركة وهذه الكينونة الأولية هي انطباع أرسطو عن فكرة الخالق الأعظم لكن أرسطو لم يتعمق في كيفية وغرض منشأ الكون من الأساس .
الفلسفة اليونانية في الفلسفة الإسلامية المبكرة
في العصر الذهبي للدولة العباسية وتحديدا في عصر المأمون بدأ العصر الذهبي للترجمة ونقل العلوم الإغريقية والهلنستية إلى العربية مما مهد لانتشار الفكر الفلسفي اليوناني بشكل كبير وكانت المدرسة الفلسفية الكثر شيوعا خلال العصر الهلنستي هي المدرسة الإفلاطونية المحدثة Neoplatonism التي كان لها أكبر تأثير في الساحة الإسلامية في ذلك الوقت. تحاول الفلسفة الإفلاطونية المحدثة التي أحدثها أفلوطين أساسا الدمج بين الفكر الأرسطي والأفلاطوني والتوفيق بينهما ضمن إطار معرفي واحد وتصور وحيد لعالم ماتحت القمر وما فوق القمر. الأفلاطونية المحدثة أيضا ترتبط ارتباطا وثيقا بالمفاهيم الغنوصية التي تتوافق مع بعض أفكار الديانات المشرقية القديمة. أهم تجليات هذه الأفلاطونية المحدثة والغنوصية تجلت في أفكار أخوان الصفا في رسائلهم والتي شكلت الإطار الفكري المرجعي للفكر الباطني.
لاحقا بدأت تظهر من جديد عملية فصل للمدرستين الإفلاطونية والأرسطية، حيث ظهر العديد من العجبين بقوة بناء النظام الفكري الأرسطي وقوة منطقه واستنتاجه وكان أهم شارحيه وناشري المدرسة الأرسطية هو ابن رشد، لم تعدم الاسحة الإسلامية أيضا انتقال بعض الأفكار الشكوكية التي عمدت إلى نقد الأفكار الميتافيزيقية الإسلامية وكانت تبدي الكثير من الأفكار التي توصف بالإلحاد حاليا اهمهم : ابن الراوندي ومحمد بن زكريا الرازي.
الهرمسية والإفلاطونية المحدثة
أول ما وجد في منطقة الشرق الأدنى (سوريا والعراق ومصر) بعد دخول الإسلام من دراسات فلسفية كانت الثقافة الهيلينية التي كانت تسيطر عليها الإفلاطونية المحدثة إضافة إلى الهرمسية التي كانت مختلطة بجماعات الصابئة في حران وعقائد وأفكار المانوية والزرادشتية. تشكل الهرمسية والإفلاطونية المحدثة مجموعة رؤى هرمسية وإطار فلسفي لرؤية كونية غنوصية أو تدعى أحيانا يالعرفانية. تنسب الهرمسية كعلوم وفلسفة دينية إلى هرمس المثلث بالحكمة الناطق باسم الإله.غير ان العديد من البحاث الحديثة (أهمها دراسة فيستوجير) تؤكد أن تلك المؤلفات الهرمسية ترجع إلى القرنين الثاني والثالث للميلاد وقد كتبت في مدينة الإسكندرية من طرف أساتذة يونانيين. وبشكل عام تقدم الرؤية الهرمسية تصورا بسيطا عبارة عن إله متعال منزه عن عن كل نقص ولا تدركه الأبصار ولا العقول. بمقابله توجد المادة وهي أصل الفوضى والشر والنجاسة. أما الإنسان فهو مزبج جسم مادي غير طاهر، يسكنه الشر ويلابسه الموت، وجزء شريف أصله من العقل الكلي الهادي هو النفس الشريفة. تتصارع في الإنسان جزءاه الطاهر والنجس وتتصارع فيه الهواء بين رغبة بالالله ورغبة في الشر لذلك جاء الإله هرمس ليقوم بالوساطة بين الإنسان والإله المالله بتوسط العقل الكلي الهادي ليعلم الناس طريق الخلاص والاتحاد بالاله المالله (و هنا يحدث الفناء في مصطلح الصوفية). لكن هذا الطريق صعب لا يتحمله إلا النبياء والأتقياء والحكماء. النفس كائنات إلهية عوقبت بعد ارتكابها إثم لتنزل وتسجن في الأبدان ولا سبيل لخلاصها إلا بالتطهر والتأمل للوصول إلى المعرفة، هذه المعرفة لا تتم عن طريق البحث والاستدلال بل عن طريق ترقي النفس في المراتب الكونية والعقول السماوية.

عدم الفصل بين العالم العلوي والعالم السفلي، وقدرة النفس على التواصل مع العقول السماوية والإله المالله، إلهية النفس البشرية وشوقها للاتحاد والاندماج في الاله أو حلول الاله في العالم، وحدة الكون وتبادل التأثير بين مختلف الكائنات (نباتات، حيوانات، إنسان، اجرام سماوية سبعة أو الكواكب )، الدمج بين العلم والدين وعدم الاعتراف بسببية منتظمة في الطبيعة، دراسة العناصر وتحولاتها بشكل ممتزج مع السحر والتنجيم (أصول الخيمياء) : كل هذا يشكل مباديء الهرمسية والعرفانية وتشكل الأفلاكونية المحدثة عن طريق العقول السماوية العشرة ونظرية الفيض التي تنتقل من خلالها المعرفة من العقل الأول إلى الإنسان وبالعكس الإطار الفلسفي لهذه الأفكار.
فلسفة أرسطو
لم يدخل أرسطو إلى الساحة العربية الإسلامية إلا بعد حملة الترجمة التي قام بها الخليفة المأمون. وتذكر المصادر ان أول كتب تمت ترجمته لأرسطو كان كتاب "السماء والعالم" من قبل يوحنا البطريق عام 200 هـ لكن حنين بن اسحاق اضطر إلى إعادة ترجمتها عام 260 هـ ويمكن اعتبار بداية دخول أرسطو الحقيق تمت على يد حنين وابنه اسخاق سنة 298 هـ. أما أرسطو المنحول فقد دخل عن طريق كتاب "أتولوجيا" الذي ترجمه ابن ناعمة الحمصي عام 220 هـ. ويبدو أن ابن المقفع وابنه محمد قد قاما أيضا بترجمة بعض كتب أرسطو مثل كتب الأرغانون وكتاب التحليلات الأولى وكتاب المنطق لفورفوريوس. ويؤكد بول كراوس أنه لم يتم خلال الفترة الأولى قبل المامون ترجمة أي شيء عدا الأجزاء الثلاثة الأولى من الأرغانون التي تتناول المنطق فقط دون الفلشفة الولى والطبيعة على عادة المسيحيين السريان، لكن حركة الترجمة في عصر المأمون مددت ذلك لتشمل كتب أرسطو غير المنطقية. ويكفي أن نعرف ان كتاب التحليلات الثانية أو البرهان لم يترجم للعربية إلا في القرن الرابع الهجري على يد أبي بشر متى عام 328 هـ

تاريخ الفلسفة في العالم الإسلامي
علم الكلام والمعتزلة
كان علم الكلام مختصا بموضوع الإيمان العقلي بالله وكان غرضه الإنتقال بالمسلم من التقليد إلى اليقين وإثبات أصول الدين الإسلامي بالأدلة المفيدة لليقين بها. علم الكلام كان محاولة للتصدي للتحديات التي فرضتها الالتقاء بالديانات القديمة التي كانت موجودة في بلاد الرافدين أساسا (مثل المانوية والزرادشتية والحركات الشعوبية) وعليه فإن علم الكلام كان منشأه الإيمان على عكس الفلسفة التي لا تبدأ من الإيمان التسليمي، أو من الطبيعة، بل تحلل هذه البدايات نفسها إلى مبادئها الأولى [10] . هناك مؤشرات على إن بداية علم الكلام كان سببه ظهور فرق عديدة بعد وفاة الرسول محمد ،ومن هذه الفرق : [11]:
المعتزلة (القدرية) لإنكارهم القدر.
الجهمية (الجبرية) أتباع جهم بن صفوان كانوا يقولون إن العبد مجبور في أفعاله لا اختيار له.
الخوارج
الاشاعرة و الماتريدية و الصوفية و المرجئة يحرفون الأسماء و الصفات
الإمامية والزيدية والاسماعيلية والعلوية والشيعة بشكل عام.
كان نشأة علم الكلام في التاريخ الإسلامي نتيجة ما إعتبره المسلمون ضرورة للرد على ما إعتبروه بدعة من قبل بعض "‏الفرق الضالة" وكان الهدف الرئيسي هو إقامة الأدلة وإزالة الشبه ويعتقد البعض إن جذور علم الكلام يرجع إلى الصحابة والتابعين ويورد البعض على سبيل المثال رد ابن عباس وابن عمر وعمر بن عبد العزيز والحسن بن محمد ابن الحنفية على المعتزلة، ورد علي بن أبي طالب على الخوارج ورد إياس بن معاوية المزني على القدرية والتي كانت شبيهة بفرضية الحتمية. كان علم الكلام عبارة عن دراسة "أصول الدين" التي كانت بدورها تتمركز على 4 محاور رئيسية وهي: [13]
الالوهية: البحث عن اثبات الذات والصفات الالهية.
النبوة: عصمة الأنبياء وحكم النبوة بين الوجوب عقلاً، وهو مذهب المعتزلة والجواز عقلاً، وهو مذهب الاشاعرة.
الامامة: الآراء المتضاربة حول رئاسة العامة في أمور الدين والدنيا لشخص من الاشخاص نيابة عن النبي محمد.
المعاد: فكرة يوم القيامة وإمكان حشر الاجسام. ويدرج البعض عناوين فرعية أخرى مثل "العدل" و"الوعد" و"الوعيد" و"القدر" و"المنزلة".
دور الكندي في الفلسفة
كان يعقوب بن اسحاق الكندي (805 - 873) أول مسلم حاول استعمال المنهج المنطقي في دراسة القرآن، كانت أفكار الكندي متأثرا نوعا ما بفكر المعتزلة ومعارضا لفكر أرسطو من عدة نواحي. نشأ الكندي في البصرة وإستقر في بغداد وحضي برعاية الخليفة العباسي المأمون، كانت اهتمامات الكندي متنوعة منها الرياضيات والعلم والفلسفة لكن اهتمامه الرئيسي كان الدين .
بسبب تأثره بالمعتزلة كان طرحه الفكري دينيا وكان مقتنعا بأن حكمة الرسول محمد النابعة من الوحي تطغى على إدراك وتحليل الإنسان الفيلسوف هذا الرأي الذي لم يشاركه فيه الفلاسفة الذين ظهروا بعده. لم يكن اهتمام الكندي منصبا على دين الإسلام فقط بل كان يحاول الوصول إلى الحقيقة عن طريق دراسة الأديان الأخرى وكانت فكرته هو الوصول إلى الحقيقة من جميع المصادر ومن شتى الديانات والحضارات
كان الخط الفكري الرئيسي للكندي عبارة عن خط ديني إسلامي ولكنه إختلف عن علماء الكلام بعدم بقاءه في دائرة القرآن والسنة وإنما خطى خطوة إضافية نحو دراسة الفلسفة اليونانية وقام باستعمال فكرة أرسطو والتي كانت مفادهاان الحركة وإن كانت تبدو عملية لا متناهية فإن مصدرها الثبات وإن هذه الكينونة الثابتة هي التي حولت الثبات إلى حركة فقام الكندي بطرح فكرة مشابهة ألا وهي إن لا بد من وجود كينونة ثابتة وغير متحركة لتبدأ نقطة انطلاق حركة ما. كان الكندي لحد هذه النقطة موافقا لأرسطو ولكنه ومن هذه النقطة أدار ظهره لفكر أرسطو ولجأ إلى القرآن لتكملة فكرته عن الخلق والنشوء وإقتنع بأن الله هو الثابت وإن كل المتغيرات نشأت بإرادته .
لكن الفلسفة التقليدية اليونانية كانت لاتعترف بهذه الفكرة على الإطلاق وعليه فإن الكندي حسب تعريف المدرسة الفكرية اليونانية لايمكن وصفه بفيلسوف حقيقي ولكنه كان ذو تأثير على بداية تيار فكري حاول التناغم بين الحقيقة الدينية والميتافيزيقيا .
و في عصره (عصر المعتصم) سيحاول الكندي أن ينخرط في معركة "نصرة العقل" ضد أفكار الهرمسية والأفلاطونية المحدثة لذلك سنجده يؤلف "الرد على المنانية والمثنوية" وسيرفض نظرية الهرمسية والأفلاطونية المحدثة عن وجود جملة من العقول السماوية (و هي الطريقة التي تجعل بها الهرمسية وسائط بين العقل الكلي أو العقل العاشر الفعال والإنسان ) وهي أساس نظرية الفيض التي تجعل معرفة الإنسان قابلة للحصول عن طريق الفيض أو الغنوص [1]. يرفض الكندي هذا الاتصال ويميز بين "علم الرسل" الذي يحدث عن طريق الوحي (الوسيلة الوحيدة بين الله والإنسان ) و"علم سائر البشر" الذي لا يحدث إلا عن طريق البحث والاستدلال والاستنتاج. في مجال الوجود وعلى عكس الفلاسفة اللاحقين سيتنى الكندي فكرة "حدوث العالم" مستندا إلى مجموعة من المفاهيم الأرسطية : فجرم العالم متناه والزمان متناه أيضا والحركة متناهية، إذا العالم متناه ومحدث : حسب تعبير الكندي : " الله هو العلة الأولى التي لا علة لها الفاعلة التي لا فاعل لها المتممة التي لا متمم لها، المؤيس الكل عن ليس والمصير بعضه لبعض سببا وعلة ". وواضح هنا أن أثر الثقافة الإسلامية واضح في كلام الكندي الذي لم يصله الكثير بعد من ترجمات كتب أرسطو.
إضافة لذلك يقرر الكندي أن الحقيقية الدينية والحقيقة الفلسفية واحدة فلا تناقض بينهما، غير أن ظاهر النص قد يوحي ببعض الاختلاف إذا لم يعمل العقل في مجال تأويل معقول.
بالمقابل سيؤلف الكندي "رسالة في الفلسفة الأولى" ليهديها إلى الخليفة المعتصم وهي بمجملها تخطئة لموقف الفقهاء والمتكلمين من علوم الأوائل (الفلسفة) والدعوة إلى الاستفادة لما ورد في علوم الأوائل من علوم مفيدة. الرسالة بمجملها تعتبر دفاعا عن الفلسفة وسط حالة الرفض لكل ما هو أجنبي لكنها لاترقى إلى تأسيس فهم وترسيخ الفكر الأرسطي بشكل واضح [1].
دور الرازي في الفلسفة
تميز الجيل الذي ظهر بعد الكندي بصفة أكثر حزما وراديكالية، فكان أبو بكر الرازي (864 - 923) الذي وصف بكونه ذو تيار فكري رفض إقحام الدين في شؤون العقل ورفض في نفس الوقت نظرة أرسطو للميتافيزيقيا وكان فكره أقرب إلى الغنوصية أو (العارفية) حيث قال الرازي إن من المستحيل ان يكون منشأ المادة عبارة عن كينونة روحية ورفض الرازي أيضا فكرة والتي كانت مفادهاان الحركة وإن كانت تبدو عملية لا متناهية فإن مصدرها الثبات ورفض في نفس الوقت تحاليل علماء الكلام عن الوحي والنبوة.
كان الرازي مقتنعا إن التحليل العقلي والمنطقي هي الطريقة الوحيدة للوصول إلى المعرفة وعليه فإن الكثير من المؤرخين لايعتبرون الرازي مسلما بالمعنى التقليدي للمسلم ويرى الكثيرون انه كان الإنعطافة الحقيقية الأولى نحو الفلسفة والفيلسوف كما كان يعرف في الحضارة اليونانية. كان الرازي طبيبا بارعا ومديرا لمستشفى في الري في إيران وكان جريئا في مناقشة التيار الفكري الذي سبقه وكان مؤمنا إن الفيلسوف الحقيقي لايستند على تقاليد دينية بل يجب عليه التفكير بمنآى عن تأثير الدين وكان مقتنعا إن الاعتماد على الدين غير مثمر لإختلاف الأديان المختلفة في وجهات النظر حول الخلق وماهية الحقيقة.
أكبر نقد تم توجيهه إلى الرازي كان نقدا عميقا جدا بالرغم من بساطته والنقد البسيط العميق كان إذا كانت الفلسفة الطريقة الوحيدة للوصول إلى الحقيقة فماذا عن عامة الناس أو الناس البسطاء الغير قادرين على التفكير الفلسفي هل يعني هذا بأنهم تائهون للابد، يأتي أهمية هذا النقد بسبب كون الفلسفة في المجتمع الإسلامي ولحد هذا اليوم مرتبطة بطبقة النخبة وباشخاص إتسموا بذكاء عالي وهذا كان مناقضا لمفهوم الأمة الإسلامية الواحدة والأفكار الروحية المفهومة من قبل الجميع وليس البعض.
دور الفارابي في الفلسفة
الفارابي كما يظهر على عملة كازاخستان.بدأ الفارابي من من نقطة الإنتقاد الموجهة للرازي وللفلسفة بصورة عامة وكان النقد عبارة عن فائدة الفلسفة في تنظيم الحياة اليومية للإنسان البسيط الذي يرى الفلسفة شيئا بعيدا كل البعد عن مستوى أستيعابه ولايجد في ذلك النوع من المناقشات اي دور عملي ملموس في حياته اليومية. حاول أبو نصر محمد الفارابي (874 - 950) الفيلسوف من تركستان تضييق حجم الفجوة بين المسلم البسيط والفلسفة ويعتبره البعض رائدا في هذا المجال حيث حاول في كتابه "آراء أهل المدينة الفاضلة" التطرق إلى القضايا الاجتماعية والسياسية المتعلقة بالإسلام. في كتاب "الجمهورية" طرح أفلاطون فكرة إن المجتمع المثالي يجب ان يكون قائده فيلسوفا يحكم حسب قوانين العقل والمنطق وتبسيطها لتصبح مفهومة من قبل الإنسان البسيط. من هذه الفكرة حاول الفارابي ان يطرح فكرته حول إن الرسول محمد كان بالضبط ما حاول أفلاطون ان يوضحه عن صفات قائد "المجتمع الفاضل" لقدرته حسب تعبير الفارابي من تبسيط اللهم روحية عليا وإيصالها إلى الإنسان البسيط.
بهذه النظرة إبتعد الفارابي كليا عن مفهوم الخالق في الفلسفة اليونانية الذي كان بعيدا كل البعد عن هموم الإنسان البسيط والذي لم يخاطب الإنسان يوما، ولكن الفارابي ضل ملتقيا مع فكر أرسطو في نقطة إن قرار الخلق لم يكن عبثيا ولا متسرعا. استخدم الفارابي فكرة النشوء اليونانية التي كانت تختلف عن فكرة الخلق في الديانات التوحيدية فحسب النظرية اليونانية فإن النشوء يبدأ من كينونة أولية ثابتة ولكن سلسلة النشآت تخضع لقوانين طبيعية بحتة وليست لقوانين دينية أو إلهية [23]. حاول الفارابي تطويع هذه الفكرة من النظرة التوحيدية للخلق فقال إن الإنسان بالرغم من منشأه على هذه الأرض فإنه امتداد لسلسلة من أطوار النشوء التي بدأت من المصدر إلى السماء العلى إلى الكواكب والشمس والقمر وإن الإنسان له القدرة بأن يزيل أتربة هذه التراكمات من النشوء لكي يرجع إلى الخالق الأولي وكان هذا التحليل بالطبع مخالفا لفكرة القرآن عن خلق الإنسان
دور وتأثير أهل العجم
كما ذكر ابن خلدون، مؤرخ القرن الرابع عشر وعالم الاجتماع العربي، أنها لحقيقة جديرة بالملاحظة بأن معظم العلماء المسلمين في العلوم الفكرية كانوا من العجم (غير العرب):
«...فصارت هذه العلوم كلها علوما ذات ملكات محتاجة إلى التعليم فاندرجت في جملة الصنائع وقد كنا قدمنا أن الصنائع من منتحل الحضر وأن العرب أبعد الناس عنها فصارت العلوم لذلك حضرية وبعد عنها العرب وعن سوقها والحضر لذلك العهد هم العجم أو من هم في معناهم من الموالي وأهل الحواضر الذين هم يومئذ تبع للعجم في الحضارة وأحوالها من الصنائع والحرف لأنهم أقوم على ذلك للحضارة الراسخة فيهم منذ دولة الفرس فكان صاحب صناعة النحو سيبويه والفارسي من بعده والزجاج من بعدهما وكلهم عجم في أنسابهم وإنما ربوا في اللسان العربي...... واستقر العلم كله صناعة فاختصت بالعجم وتركتها العرب وانصرفوا عن انتحالها فلم يحملها إلا المعربون من العجم شأن الضائع كما قلناه أولا فلم يزل ذلك في الأمصار ما دامت الحضارة في العجم وبلادهم من العراق وخراسان وما وراء النهر فلما خربت تلك الأمصار وذهب منها الحضارة التي هي سر الله في حصول العلم والصنائع ذهب العلم من العجم جملة لما شملهم من البداوة...»
دور أهل الكتاب
لعب المسيحيون دورا مهما في ظل الدولة الإسلامية حيث برزت مساهمة القبائل المسيحية ابان الفتوحات العربية، وفي تثبيت اركان الحكم، وبقيت مجتمعات مسيحية على دينها مثل أقباط مصر، وموارنة لبنان، وتغالبة الجزيرة، وكان مسيحيو الشام من القبائل التغلبية يشكلون سندًا للامويين في الجيش، وفي الاسطول[32] اعتمدت الدولة الإسلامية على المسيحيين في إدارة الدولة ودواوينها فقد كان للمسيحيين العرب دور بارز في العصر الأموي، في إنشاء الدواوين،[32] فاستفاد الأمويون والعباسيون منهم في تعريب الدواوين والإدارة وأبقوهم على رأس وظائفهم؛ وكذلك فعل الفاطميون في مصر، ولم يقتصر الأمر على موظفي الإدارة، بل تعداه إلى الوظائف الكبيرة في الدولة.
في العصر الأموي شغل المسيحيون وظائف هامة منهم من كان أطباء وزراء وشعراء فقد عين معاوية الطبيب ابن آثال عاملاً على ولاية حمص،[32] كان منصور بن ياسر سرجيون وزيراً، وكان طبيبه الخاص كان عربياً مسيحياً كما وتقلد بعض المسيحيين تقلد الوزارة كسعيد بن ثابت وكان شاعر البلاط في عهده الأخطل وكان ثالث أشهر شعراء في «النقائض» مع جرير والفرزدق.[32] وكان منهم أيضاً حرفيون مهرة، شارك عدد غير قليل منهم في بناء الجامع الأموي الكبير، الذي أمر الخليفة الوليد بن عبد الملك ببنائه.[32] وعين سليمان بن عبد الملك كاتباً نصرانياً، كما عين المأمون العباسي اسطفان بن يعقوب مديراً لخزينة الخليفة، وتم تقليد ديوان الجيش لمسيحي مرتين، وشغل سعيد بن ثابت وزارة، وتولى عبيد بن فضل قيادة الجيش، وكان عيسى بن نسطور وزيراً في بلاط العزيز الخليفة الفاطمي، وكان لعضد الدولة وزير نصراني اسمه نصر بن هارون، وكلفمسيحيون كثيرون بمسؤوليات حكومية أيام الدولة الفاطمية.[32]
كان للمسيحيين خاصًة السريان والنساطرة دور مهم في الترجمة والعلوم،[33] بخاصة أيام الدولة العباسية، وأدت الترجمة مهمة رئيسة في ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، وقد أتقن العرب، والمسيحيون منهم خاصة، الترجمة واستوعبوا محتويات الكتب المترجمة، بعدما عربوها وأعادوا صياغتها وطوروا مضمونها وأجروا عمليات نقد عليها وأعادوا إنتاج الثقافات السابقة لهم ووضعوها بين يدي العالم في ما بعد. لقد ترجم المسيحيونمن اليونانية والسريانية والفارسية،[34] واستفادوا من المدارس التي ازدهرت فيها العلوم قبل قيام الدولة العربية خصوصاً مدارس مدن "الرها ونصيبين وجند يسابور وإنطاكية والإسكندرية" المسيحية والتي خرجت هناك فلاسفة وأطبّاء وعلماء ومشرّعون ومؤرّخون وفلكيّون وحوت مستشفى، مختبر، دار ترجمة، مكتبة ومرصد.[35] واشتهر من المترجمين شمعون الراهب وجورجيوس أسقف حوران وجوارجيوس وجبريل بن بختيشوعالذين اشتهروا في الطب خصوصاً، وبقيت أسرتهم آل بختيشوع مسؤوله عن الطب في الدولة العباسية طوال ثلاثة قرون وخدمت كأطباء خاصين للخلفاء العباسيين،[36] وعيّن المأمون يوحنا بن ماسويه الذي ترجم وألف خمسين كتاباً رئيساً لبيت الحكمة وكان أبوه أيضًا طبيبا،[36] وحنين بن إسحق كان أيضاً رئيساً لبيت الحكمة ومن بعده ابن اخته حبيش بن الأعسم وقد ترجم حنين بن إسحق 95 كتابًا [36]، وسعيد بن البطريق وله عدد من المصنفات وقسطا بن لوقا وقد أقام المأمون يوحنا بن البطريق الترجمان أميناً على ترجمة الكتب الفلسفيّة من اليونانيّة والسريانيّة إلى العربيّة،[36] وتولّى كتب أرسطو وأبقراط ومنهم أيضًا إسحق الدمشقي ويحيى بن يونس والحجاج بن مطر وعيسى بن يحيى ويحيى بن عدي وعبد المسيح الكندي، [36] وقد ترجموا وألفوا في الفلسفة والنواميس والتوحيد والطبيعيات والإلهيات والأخلاق والطب والرياضيات والنجوم والموسيقى وغيرها. عدد من الباحثين يشيرون بنوع خاص إلى تطور الفيزياء في اللغة السريانية.[37] وكان لترجمتهم كتب الفلسفة إلى العربية أثر كبير في ظهور «فرق المعتزلة» التي تجعل من العقل الحكم الوحيد في تفسير أحكام الشريعة الإسلامية.[38]
وأسهم الأقباط بدورهم في التطور العلمي،[39] فهم الذين قاموا بالدور الأساسي في بناء الأسطول العربي في بداية العصر الأموي، وهم الذين أقاموا دار الصناعة في الإسكندرية، ودار الصناعة في تونس، وذهب عدد من العمال الفنيين الاقباط إلى الشام للهدف نفسه.[
التراث اليوناني والحضارة العربية الإسلامية )

من الحقائق الثابتة في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية أن التراث اليوناني شكّل عنصراً رئيسياً من عناصر تكوينها؛ ولم يتمثل ذلك في وفرة العلوم والمعارف التي أفاد منها العرب من هذا التراث فحسب، وإنما تمثَّل أيضاً في اتخاذ المثقفين العرب والمسلمين قواعد منطق أرسطو دليلاً أو منهجاً لتنسيق مختلف العمليات الفكرية وخدمة العلوم بغية الوصول إلى الحقيقة. ومن هنا جاء هذا المقال ليلقي نظرة علمية على مكانة التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية ويبيّن متى وكيف اتصل العرب بهذا التراث؟ ومن هم رعاته؟ ومن هم نقلته إلى العربية؟ وما أهم الكتب التي ترجمت من اليونانية إلى العربية؟ وما مدى تأثير هذا التراث في الفكر العربي والإسلامي؟
 وصلت الثقافة اليونانية إلى العرب عن طريق العلماء الهنود، الذين برعوا بصفة خاصة في الرياضيات والفلك والطب، والتي اعتمدوا في معظمها على التراث اليوناني .
ترجم العرب ما كتبه اليونانيون في ميدان الفلك والجغرافيا، وذلك لمعرفة مواقيت الصلاة والأعياد ومعرفة الطالع. وقد حظي المنجمون وعلماء الفلك بمكانة كبيرة في البلاط العباسي .
·        ويقول ابن أبي أصيبعة إن الفارابي فاق جميع المسلمين في صناعة المنطق «فشرح غامضها وكشف سرها وقرب تناولها وعرف طرق استعمالها»
          وصلت الثقافة اليونانية إلى الشرق مع فتوحات الإسكندر المقدوني (المتوفى عام 323 ق.م)، التي امتدت من ليبيا غرباً إلى الهند شرقاً. وقد عمل الإسكندر على نشر الثقافة اليونانية ومزجها مع ثقافات شعوب المناطق التي فتحها. وظلت هذه الثقافة في هذه المناطق بعد انسحاب جيوش الإسكندر منها.) ويهمنا أن نؤكد أن معظم البلاد التي فتحها الإسكندر غدت، بعد الفتوحات العربية، داخل حدود الدولة العربية الإسلامية، ولهذا فقد كان من الطبيعي أن تصل الثقافة اليونانية إلى العرب والمسلمين من خلال عدة مدن كانت لاتزال حتى ذلك الوقت مراكز أساسية للثقافة اليونانية، منها:
          1 - الإسكندرية: كان قد أسسها الإسكندر المقدوني، وظهرت فيها مدرسة فلسفية مستمدة من آراء أفلاطون (ت347 ق.م) وأرسطو (ت322 ق.م). وبعد أن انتشرت فيها المسيحية سارت جنباً إلى جنب الفلسفة، حيث استخدم المسيحيون الفلسفة والمنطق اليونانيين، لحل المنازعات بين مذاهبهم. وعند الفتح العربي لهذه المدينة كانت قد اشتهرت بالطب والكيمياء والعلوم الطبيعية.
          2 - مدن السريان-النساطرة: مثل نصيبين والرها وغيرهما من مدن شمال الجزيرة السورية، حيث ظهرت فيها مدارس على النمط الإسكندري، أي المزج بين الفلسفة اليونانية والمسيحية. وقامت فيها حركة ترجمة مهمة من اليونانية إلى السريانية قبل الإسلام. وعند الفتح العربي لهذه المدن كانت قد اشتهرت فيها دراسات الفلسفة والمنطق، وسيلعب العلماء النساطرة فيها دوراً علمياً مهماً في العصر العباسي، سواء في قيادة حركة الترجمة من السريانية واليونانية إلى العربية أو المشاركة بفعالية في النهضة العلمية آنذاك.
          3 - حران: كانت هذه المدينة مركزاً للثقافة اليونانية، وظل أهلها الصابئة يرفضون اعتناق المسيحية والإسلام، وبرز منهم عدد من العلماء والفلاسفة الذين لعبوا دوراً كبيراً في حركة الترجمة من السريانية واليونانية إلى العربية في العصر العباسي أمثال ثابت بن قرة وأولاده.
          4 - جنديسابور: وهي مدينة أسسها الملك الفارسي سابور الأول (ت 272م) في جنوب غربي إيران، لتكون معسكراً لأسرى الروم. ثم لجأ إليها عدد من الفلاسفة اليونانيين بعد أن أغلق الإمبراطور البيزنطي جستنيان الثاني (ت 565م) مدرسة الفلسفة في أثينا عام 529م. كما هاجر إليها الكثير من العلماء النساطرة نتيجة الاضطهاد الديني الذي تعرضوا له في ظل الدولة البيزنطية التي تعتنق المسيحية على المذهب الملكاني. وسرعان ما اشتهرت جنديسابور بمدرستها الطبية والمشفى الملحق بها. وكان التعليم فيها يقوم على أكتاف العلماء اليونانيين والنساطرة. واللغة المستخدمة فيها كانت اليونانية والسريانية. وبعد الفتح العربي استمرت هذه المدينة بالازدهار العلمي، وفي العصر العباسي انتقل علماؤها النساطرة تدريجياً إلى بغداد وأفل نجمها، ومن هؤلاء العلماء آل بختيشوع، الذين توارثوا خدمة الخلفاء العباسيين منذ عهد أبي جعفر المنصور.
          5 - الهند: كما وصلت الثقافة اليونانية إلى العرب عن طريق العلماء الهنود، الذين برعوا بصفة خاصة في الرياضيات والفلك والطب، والتي اعتمدوا في معظمها على التراث اليوناني. وقد هاجر عدد من هؤلاء العلماء الهنود إلى بغداد وهم يحملون معهم الثقافة اليونانية إلى جانب ثقافة بلادهم، وشاركوا في الكثير من ميادين الثقافة العربية آنذاك.
بدايات الترجمة إلى العربية:
 يجمع المؤرخون على أن الترجمة من اليونانية إلى العربية بدأت في العصر الأموي على يد الأمير الأموي خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان (ت 85 هـ). فقد كان هذا الأمير مرشحا لتولي الخلافة بعد أخيه معاوية الثاني، إلا أن مروان بن الحكم (ت 65 هـ) نجح في انتزاعها له ولأولاده من بعده، وبالتالي تحطم حلم خالد في ميدان السياسة وعمل على التعويض عنه بتحقيق المجد في الميدان العلمي، ولاسيما أنه قد امتلك الطموح العلمي والثروة المادية. فقد كانت أهم النظريات الرائجة في ميدان الكيمياء (علم الصنعة) آنذاك، والموروثة عن اليونان والرومان، أن المعادن الرخيصة، مثل النحاس والرصاص والقصدير يمكن أن تتحول إلى ذهب وفضة بواسطة مادة كيميائية غامضة؛ ولهذا استقدم خالد من الإسكندرية أحد العلماء، اسمه «مريانوس»، ليعلمه الكيمياء، وبعد أن أتقنها أمر بترجمة ما كتب باليونانية والقبطية في الكيمياء إلى العربية، فقام بهذا العمل عالم اسمه «اصطفان». وهذه هي أول عملية ترجمة من لغة إلى اللغة العربية. ورغم أن خالد فشل في تحويل تلك المعادن إلى ذهب إلا أنه حقق بعض الاكتشافات في هذا الميدان، كما تشير المصادر إلى أن الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز (ت 101 هـ) أمر بنقل بعض كتب الطب من اليونانية إلى العربية. ومهما يكن من أمر فإن حركة الترجمة في هذا العصر، على تواضعها، كانت مقدمة لحركة الترجمة الكبرى التي شهدها العصر العباسي.
الترجمة في العصر العباسي:
كانت ترجمة التراث اليوناني إلى العربية، حدثاً ثقافياً كبيراً، لما ترتب عليها من نتائج بالغة الأهمية، فما العوامل التي ساعدت على ازدهارها في العصر العباسي؟
1- دعم المجتمع العباسي لحركة الترجمة، إذ لم يقتصر هذا الدعم على الخلفاء العباسيين فحسب وإنما امتد إلى الوزراء والعلماء، ففي مقدمة الخلفاء الذين قاموا برعاية الترجمة يأتي أبو جعفر المنصور (ت 158 هـ) الذي كلّف طبيبه جورجيس بن بختيشوع بترجمة بعض كتب الطب من اليونانية إلى العربية؛ ومن ثم الخليفة المهدي (ت 169 هـ) الذي تُرجم له بعض كتب المنطق، ثم الرشيد (ت 193 هـ) الذي تُرجم له بعض كتب الطب، ثم المأمون (ت 218 هـ) الذي بلغت الترجمة في عهده ذروتها لما كان يتمتع به هذا الخليفة من شغف بعلوم الأوائل (أي علوم اليونان). ومن الوزراء الذين كانوا من رعاة حركة الترجمة نذكر الوزراء البرامكة، والوزير الزيات (ت235هـ) الذي كان ينفق على النساخين والمترجمين ما يقرب من ألف دينار شهرياً. ومن العلماء نذكر أولاد موسى بن شاكر: محمد وأحمد والحسن، الذين كانوا ينفقون على الترجمة نحو خمسمائة دينار شهرياً.
2 - إن الازدهار الاقتصادي الذي عاشت في ظله الدولة العباسية شكّل سنداً قوياً لحركة الترجمة، حيث تمكنت من الإنفاق بسخاء للحصول على الكتب اليونانية ومكافأة المترجمين.
3 - إن بناء المؤسسات التي تخدم حركة الترجمة كان عاملاً مهماً في ازدهارها، حيث بنى الرشيد نواة بيت الحكمة في بغداد وقام المأمون باستكماله حتى غدا مركزاً مهماً للترجمة والنسخ، فضلا عن مكتبة للمطالعة، كما أن تأسيس أول معمل للورق في بغداد في عهد الرشيد شكل ثورة في عالم الثقافة، حيث أصبح الحصول على الكتاب أمراً ميسوراً.
 4 - إن التسامح الديني الذي ساد العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين في المجتمع العباسي شكّل دافعاً قوياً لمساهمة غير المسلمين في الحركة العلمية النشطة التي غمرت المجتمع العباسي ولا سيما حركة الترجمة من اليونانية والسريانية إلى العربية، ولهذا لعب مثقفو مصر وبلاد الشام والعراق وبلاد فارس، من نساطرة ويعاقبة وصابئة وغيرهم، دوراً رائعاً في هذه الحركة.
أهم المترجمين
لقد اهتم المؤرخون العرب والمسلمون بذكر أسماء المترجمين وتصنيفهم وفقاً لجودة ترجماتهم، وبخاصة ابن النديم صاحب كتاب «الفهرست» وابن أبي أصيبعة في كتابه «عيون الأنباء في طبقات الأطباء». وسنكتفي بذكر بعض أهم هؤلاء:
1 - حنين بن إسحق (ت260هـ) وهو من نساطرة الحيرة، وكان يتقن أربع لغات، هي: السريانية واليونانية والعربية والفارسية، وكان يترجم من اليونانية والسريانية إلى العربية. وكان المأمون يعطيه وزن ما يترجمه ذهباً. ترجم حنين وتلاميذه زبدة المؤلفات اليونانية، وتناولها بالشرح والاختصار، وتولى رئاسة بيت الحكمة في عهد الخليفة المتوكل (ت 248 هـ).
   2- ثابت بن قرة (ت288هـ) وهو من صابئة حران، وانتقل إلى بغداد بصحبة محمد بن موسى بن شاكر، الذي أوصله بالخليفة المعتضد (ت 289 هـ) فأدخله في جملة منجميه. ولم يكن أحد في أيام ثابت يماثله في الترجمة وصناعة الطب.
3 - قسطا بن لوقا البعلبكي (ت288هـ) وهو من المسيحيين الملكانيين، ولد في بعلبك، وكان يتقن السريانية واليونانية والعربية.
   4 - إسحق بن حنين (ت298هـ)، وكان في مستوى أبيه في الترجمة من اليونانية والسريانية إلى العربية، وساعد والده في بيت الحكمة، وترجم وصحح أكثر من نصف مؤلفات أرسطو.
5 - وهناك عدد كبير آخر من المسيحيين الذين ذاع صيتهم في الترجمة، نذكر منهم على سبيل المثال: حبيش الأعسم (ابن أخت حنين بن إسحق) والحجاج بن مطر وعبدالمسيح بن ناعمة الحمص ومتى بن يونس ويحيى بن عدي وغيرهم. وكان هؤلاء المترجمون يتمتعون بكفاءة علمية كبيرة، ولم يقتصر عملهم على الترجمة فحسب وإنما وضعوا شروحاً وملخصات لتسهيل فهم ما يترجمونه للقراء العرب والمسلمين، هذا فضلاً عن أن هؤلاء المترجمين قاموا كما سنرى- بتأليف كتب ذات قيمة علمية تضاهي أحيانا المستوى العلمي لما يترجم من اليونانية.
دوافع الترجمة في العصر العباسي:
رغم تباين آراء الباحثين حول دوافع ترجمة التراث اليوناني إلى العربية، إلا أنهم أجمعوا على عدة دوافع نذكر منها:
   1 - دوافع علمية: وهي رغبة رعاة الترجمة في العصر العباسي، من خلفاء ووزراء وعلماء، في الاطلاع على الثقافات القديمة والإفادة منها، ولا سيما أن الإسلام وقف منها موقفاً إيجابياً بغض النظر عن عقائد أصحابها. فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «الحكمة ضالة المؤمن يأخذها ممن سمعها ولا يبالي في أي وعاء خرجت». ومن ناحية أخرى فقد وجد العرب في علوم اليونان إنتاجاً عقلياً متميزاً، ولابد من استيعابه للانتقال إلى مرحلة التجديد والإبداع.
  2 - دوافع دينية: وهي الرغبة في استخدام الفلسفة والمنطق اليونانيين للدفاع عن الإسلام، بطريقة عقلانية، في المناقشات التي كانت تدور بينهم وبين المثقفين اليهود والمسيحيين والمانويين وغيرهم، خاصة أن هؤلاء كانوا يحسنون استخدام المنطق الأرسطي في حوارهم مع المسلمين، وبالتالي كانت الحاجة ماسة إلى دليل بالعربية يكون بأيدي المثقفين يعلمهم قوانين المناظرات وقواعد الحوار، ولهذا كان لابد من ترجمة كتب الفلسفة والمنطق اليونانيين إلى العربية.
 3 - دوافع اجتماعية: وهي الرغبة في تلبية حاجات المجتمع وتنظيم شئونه، فكل العلوم اليونانية التي تُرجمت إلى العربية تخدم جانبا من جوانب المجتمع العربي، والمثال على ذلك: (أ) الطب: ترجم العرب معظم مؤلفات عمالقة الطب اليوناني، أمثال أبقراط (القرن الخامس ق.م) وجالينوس (ت 199 م)، وذلك للإفادة منها في حماية الصحة ومعالجة الأمراض. (ب) الهندسة والحساب: ترجم العرب معظم المؤلفات اليونانية في هذه الميادين، مثل مؤلفات إقليدس (ولد عام 330 ق.م) وأبلونيوس (ت 190 ق.م) وغيرهما، وذلك لحاجتهم إليها في مسح الأراضي وأعمال الري وحل مشكلات الإرث وحسابات بيت المال والخراج.. إلخ. (جـ) الكيمياء: ترجم العرب ما كتبه اليونانيون في ميدان الكيمياء منذ أيام خالد بن يزيد (كما أشرنا)، وكذلك اهتم الخليفة أبو جعفر المنصور بالكيمياء رغبة منه في الحصول على الذهب والفضة، هذا بالإضافة إلى فوائد الكيمياء الأخرى التي تخدم حاجات المجتمع. (د) الفلك والجغرافيا: ترجم العرب ما كتبه اليونانيون في ميدان الفلك والجغرافيا، وذلك لمعرفة مواقيت الصلاة والأعياد ومعرفة الطالع. وقد حظي المنجمون وعلماء الفلك بمكانة كبيرة في البلاط العباسي، وهذا يفسر لنا أسباب ترجمة كتب بطليموس (ت 170 م) المتعلقة بالجغرافيا والفلك إلى العربية أكثر من مرة.
  4 - دوافع نفسية: ينقل بعض المؤرخين، أمثال ابن النديم وابن أبي أصيبعة رواية مفادها أن الخليفة المأمون رأى في منامه الفيلسوف اليوناني أرسطو، وسأله: «ما الحُسْن؟ فقال أرسطو: ما حَسُن في العقل، قلت ثم ماذا؟ قال: ما حَسُن في الشرع، قلت: ثم ماذا؟ قال: ما حسن عند الجمهور، قلت: ثم ماذا؟ قال: لا ثم». ويؤكد هذان المؤرخان أن هذا الحلم كان وراء حركة ترجمة التراث اليوناني إلى العربية. ولكن التحليل العلمي لهذا الحلم يدل على مدى احترام المأمون لأرسطو، ورغبته في نشر المنهج العقلاني في الأوساط الثقافية، هذا فضلاً عن رغبة الخليفة في دعم موقفه المؤيد للمعتزلة الذي يشكل العقل جوهر فكرهم ومقياس أحكامهم. ويهمنا أن نؤكد أن هذا الحلم قد تُرجم على أرض الواقع، حيث أجرى الخليفة اتصالاته مع إمبراطور الروم وجلب أحمالا من الكتب اليونانية من بلاد الروم إلى بيت الحكمة في بغداد، وأحضر أمهر المترجمين لنقلها إلى العربية.
أهم كتب التراث اليوناني التي ترجمت إلى العربية:
لقد ترجم إلى العربية معظم التراث اليوناني الذي وجد فيه المثقفون العرب والمسلمون قيمة علمية كبيرة ويلبي حاجتهم، وسنكتفي بذكر أمثلة عما ترجم، أولاً: في ميدان الفلسفة: تُرجمت بعض مؤلفات أفلاطون مثل كتابيه «السياسة» و«النواميس» وقد ترجمهما حنين بن إسحق. كما ترجمت محاوراته السبع. وتجدر الإشارة إلى أن ما وصلنا من تراث أفلاطون أقل مما وصلنا من تراث أرسطو، وربما يعود ذلك إلى اكتساح أرسطو وفلسفته الميدان الثقافي العربي الإسلامي آنذاك. كما تُرجمت إلى العربية مؤلفات أرسطو وقد وصلت إلينا هذه الترجمات جميعها باستثناء كتاب «الكون والفساد» والمقالتين الأخيرتين من كتابه «ما بعد الطبيعة». ومن كتب أرسطو التي ترجمت إلى العربية نذكر كتاب «المقولات» ترجمة حنين بن إسحق و«البرهان» ترجمة متى بن يونس و«الجدل» ترجمة يحيى بن عدي و«الخطابة» ترجمة إسحق بن حنين. ثانياً: في ميدان الهندسة: ترجم العرب مؤلفات إقليدس مثل كتابه «أصول الهندسة» الذي ترجمه الحجاج بن مطر مرتين، الأولى أيام الرشيد وعرفت بالهارونية، والثانية أيام المأمون وعرفت بالمأمونية. كما ترجمه إسحق بن حنين وأصلحه ثابت بن قرة. كما ترجمت مؤلفات أبلونيوس مثل كتابه «المخروطات» الذي ترجمه هلال الحمصي وثابت بن قرة ومؤلفات أرخميدس (ت 211 ق.م) مثل كتابه «المخروطات» الذي ترجمه ثابت بن قرة. ثالثاً: في ميدان الطب: ترجمت معظم مؤلفات أبقراط الملقب «أبوالطب» مع شروحها، مثل كتابه «الأمراض الحادة» وكتاب «الأخلاط» و«الكسر» وغيرها. وممن ترجم مؤلفاته نذكر: حنين بن إسحق وحبيش الأعسم. كما ترجمت مؤلفات جالينوس، الذي حظي بمكانة كبيرة عند العرب بسبب كثرة مؤلفاته وتنوعها، ويقول حنين بن إسحق إن ما ترجم من كتب جالينوس بلغ نحو مائة كتاب، وترجم حنين وحده منها نحو أربعة وثلاثين كتاباً، في حين ترجم البقية ابنه إسحق وابن أخته حبيش وغيرهما. ومن كتب جالينوس التي ترجمت إلى العربية نذكر كتاب «التشريح الكبير» و«الأدوية المفردة» و«المولود لسبعة أشهر». رابعاً: في ميدان الجغرافيا والفلك: ترجمت معظم مؤلفات الجغرافي بطليموس المتعلقة بالجغرافيا والفلك والتنجيم. مثل كتابه «المجسطي» الذي ترجمه إسحق بن حنين وأصلحه ثابت بن قرة، ويبدو أنه كان قد تُرجم أيضا أيام الرشيد.
وتجدر الإشارة إلى أنه لم يُترجم إلى العربية ما كتبه اليونانيون في ميدان الأدب والشعر، وربما يعود ذلك لأسباب عدة منها:
   1 - أن الأدب اليوناني اشتمل على أساطير وخرافات تتمثل في صراع الآلهة وهذا لم يتقبله عقل العربي.
  2 - أن الأدب عموماً، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بذوق الشعوب، والذوق العربي ينفر من تلفيق الروايات ويأنف من سماع القصص المختلقة.
  3 - ربما شعر العرب بالاكتفاء الذاتي في ميدان الشعر والأدب مما صرفهم عن ترجمة كتب الشعر والأدب.
  4 - أن العرب لم يتأثروا بالشعراء والمؤرخين اليونان لأنه عندما ورث العرب ثقافة اليونان كان الفكر اليوناني منصرفاً إلى العلم، وكانت الإسكندرية التي حلّت محل أثينة- قد اصطبغت بالنزعة العلمية، ولهذا تأثر العرب بالفلاسفة والأطباء والفلكيين وليس بالأدباء والشعراء.
سمات الترجمة في العصر العباسي:
إذا دققنا في طبيعة حركة الترجمة في العصر العباسي ومضمونها يمكن أن نتلمس سمات عامة تختلف اختلافاً كلياً عن تلك التي جرت في العصر الأموي، ومنها:
1 - لقد سارت الترجمة في العصر العباسي وفقا لخطة مدروسة في حين كانت في العصر الأموي عفوية أو عشوائية.
   2 - أصبحت الترجمة في العصر العباسي سياسة للدولة في حين كانت في العصر الأموي بدوافع فردية أو شخصية.
3 - شملت الترجمة في العصر العباسي معظم التراث اليوناني من فلسفة وطب وهندسة ورياضيات وعلوم وجغرافيا وفلك.. في حين اقتصرت الترجمة في العصر الأموي على الكيمياء.
 4 - تلقت حركة الترجمة في العصر العباسي دعماً مادياً ومعنوياً من الدولة وفئات عريضة من المجتمع العباسي، رسمية وغير رسمية، كما أشرنا، في حين لم تتلق هذا الدعم من الدولة الأموية، وإنما كل ما تم كان على نفقة من أمروا بها.
 5 - استمرت الترجمة في العصر العباسي نحو قرنين ونيف (من منتصف القرن الثاني حتى نهاية القرن الرابع الهجريين)، في حين كانت حركة الترجمة في أيام الأمويين سريعة الزوال.
الفلاسفة والتراث اليوناني:
إن رصد تأثير التراث اليوناني في الحضارة العربية الإسلامية موضوع لا يحتمله مقال كهذا، ولهذا سنكتفي بالإشارة إلى أثر هذا التراث في إبداعات بعض الفلاسفة العرب والمسلمين، الذين بذلوا جهودا جبارة للحصول على كتب التراث اليوناني ودراستها واستيعابها والإفادة منها، لأنهم كانوا يدركون أن هذه الجهود تشكل المقدمة الطبيعية للانتقال إلى مرحلة العطاء والإبداع. ومن هؤلاء نذكر:
 1 - الكندي (ت 252 هـ)، وقد أُطلق عليه لقب «فيلسوف العرب» وجاءت مؤلفاته لتعالج الموضوعات نفسها التي تناولتها الفلسفة اليونانية. وكان الكندي يعلن دائما أنه تلميذ أرسطو. وقام بتلخيص وتفسير الكثير من المؤلفات اليونانية مثل كتابه «أغراض كتاب إقليدس» وكتاب «تقريب قول أرخميدس» و«الطب البقراطي» و«قصد أرسطو في المقولات» وغيرها.
2 - الرازي (ت320 هـ)، تأثر الرازي تأثراً كبيراً بالتراث اليوناني لدرجة أنه لقب «جالينوس العرب». وتؤكد مؤلفاته هذه الحقيقة، مثل كتابه «اختصار النبض الكبير لجالينوس» و«الشكوك والمناقضات في كتب جالينوس» و«العلم الإلهي على رأي أفلاطون» وغيرها. 
3 - الفارابي (ت 339 هـ)، درس الفارابي الفلسفة اليونانية في بغداد على يد العالم يوحنا بن حيلان، كما أخذ عنه صناعة المنطق. ويقول ابن أبي أصيبعة إن الفارابي فاق جميع المسلمين في صناعة المنطق «فشرح غامضها وكشف سرها وقرب تناولها وعرف طرق استعمالها». وأصبح الفارابي أستاذا للفلاسفة يدرسون على يديه صناعة المنطق. ويقول ابن سينا إنه قرأ كتاب «ما بعد الطبيعة» لأرسطو أربعين مرة دون أن يفهم ما فيه حتى قرأ كتاب الفاربي في «أغراض ما بعد الطبيعة» فعندئذ انفتح عليه ما كان غامضاً. وسئل الفارابي: من أعلم أنت أم أرسطو؟ فقال: لو أدركته لكنت أكبر تلاميذه. وقد لُقب الفارابي بـ «المعلم الثاني»، لأن أرسطو كان قد لقب بـ «المعلم الأول». ومن مؤلفات الفارابي المتعلقة بالتراث اليوناني نذكر: كتاب «شرح كتاب المجسطي» كما شرح كتب أرسطو مثل كتاب «البرهان» و«الخطابة» و«القياس» وغيرها.
  4 - ابن سينا (ت 428 هـ)، درس ابن سينا كتب المنطق الأرسطي وكتب إقليدس وبطليموس وغيرها، بحيث لم يبلغ الثامنة عشرة من عمره حتى استوعب كتب الفلسفة اليونانية بكل فروعها. ويقول أحد الباحثين «لقد صب ابن سينا التراث الطبي اليوناني ومعارف العرب الطبية في كتابه الضخم «القانون في الطب» وهذا الكتاب يُعد مفخرة التفكير العربي المنظم ونهاية ما وصل إليه من عبقرية». ولا يسعنا المجال للحديث عن أثر الفكر اليوناني في عدد آخر من الفلاسفة والعلماء المسلمين، أمثال: ابن الهيثم (ت 430 هـ) الذي لخص الكثير من كتب أفلاطون وأرسطو وأبقراط وجالينوس وأفاد منها. والبيروني (ت 442 هـ) الذي كانت ثقافته يونانية، وحذا في تأليف كتابه «القانون المسعودي» حذو كتاب «المجسطي» لبطليموس، وابن رشد (ت 595 هـ) الذي كان أعظم المتخصصين في فلسفة أرسطو في العصور الوسطى، حتى أن دانتي أطلق عليه في «الكوميديا الإلهية» لقب «الشارح الأكبر».
وامتد تأثير الفكر اليوناني في ميادين أخرى في الثقافة العربية مثل اللغة العربية نفسها، فالكتاب المنسوب إلى سيبويه في النحو إنما نشأ تحت تأثير منطق أرسطو، حيث نجده وقد رُتّب ترتيبا منطقيا، يبدأ بتقسيم الكلمة إلى اسم وفعل وحرف.. كما ظهر تأثير الفكر اليوناني في مؤلفات الجاحظ الذي كان مطلعاً عليه اطلاعاً واسعاً. وكان للبلاغة اليونانية أثر في علم البلاغة العربي.
كما كان للفلسفة اليونانية تأثير في مضمون الشعر العربي فقد اشتملت قصائد العديد من الشعراء العرب على معانٍ فلسفية وحكمٍ مقتبسة من الفلسفة اليونانية أمثال: الشاعر صالح عبدالقدوس وأبي تمام والمتنبي والمعري وغيرهم. كما أسهم التراث اليوناني في التكوين العلمي للمترجمين أنفسهم، حيث ألفوا بالعربية بالإضافة إلى ما ترجموه- كتبا في الكثير من ميادين العلم والمعرفة، تحت تأثير الثقافة اليونانية، وهذه المؤلفات أطلق عليها أصحابها تواضعا اسم: مقدمات أو مختصرات أو رسائل.. وقد اشتمل بعضها على إبداعات ذات قيمة علمية كبيرة، كما أنها ساعدت القراء العرب على استيعاب الفكر اليوناني استيعاباً صحيحاً، والأمثلة على ذلك كثيرة منها:
          1 - ألف حنين بن إسحق كتباً كثيرة منها كتاب «الأغذية» و«عشر مقالات في العين».
          2 - ألف إسحق بن حنين كتاب «الأدوية المفردة» وغيره.
          3 - ألف قسطا بن لوقا كتاب «البلغم» و«المدخل إلى المنطق» وغيرهما.
          4 - ألف ثابت بن قرة كتاب «اختصار المنطق» و«اختصار ما بعد الطبيعة» وغيرهما.
اثر الفلسفة اليونانية ان العرب والمسلمين لم يتعرفو على الفلسفة اليونانية كما هي في نصوصها الاصلية بل تعرفو عليها من خلال مسالك اخرى لقد انتقلت الى العربية بعض مباحت الفلسفة اليونانية عن طريق مدرسة الاسكندرية وهي مباحث الفلسفة اللافلاطونية التى جمعت بين اراء افلاطون وارسطو وانتقلت ايضا اراء افلاطون التى ترجمت الى اللغة العربية عن طريق العلماء السوريين والمصريين قبل الفتح الاسلامي كما نقل العرب مختلف مباحث الفلسفة اليونانية عن اللغة السريانية والفارسية والهندية وانطلاقاهذه المعطيات نستطيع القول ان الفلسفة اليونانية كان لها تاثير قوي على نشاة الفلسفة الاسلامية ولكن تاثيرها كان اشد على بعض الفلاسفة وهم الفارابي ابن سينا الكندي وابن رشد وكان اخف عند علماء الكلام والفقهاء وعلماء الاصول مما تقدم يظهر ان الفلسفة الاسلامية خضعت في نشاتها لعوامل خارجية وبلتالي انبثقت من محيط ثقافي غير عربي وغير اسلامي ايضا وهدا ما دهب اليه بعض المفكرين الغربيين وفي مقدمتهم المستشرق الفرنسي ارنست رينان الذي اعتبر الفليفة الاسلامية مجرد تكرار للفلسفة اليونانية وهكذا نجد انفسنا امام موقفين متعا رضين موقف يعتقد اصحابه ان العوامل الداخلية هي الاصل المتين لنشاة الفلسفة الاسلامية و اما العوامل الخارجية فهي امتداد لها وموقف يعتقد اصحابه ان العوامل الخارجية هي الاصل الاول لنشاة الفلسفة الاسلامية واما العوامل الداخلية فهي فهي تابعة لها ولكننا اذا امعنا النضر تبين لنا ان هذا التعارض بين الموقفين يمكن تجاوزه لانه من الصعب ان نتحدث عن فلسفة اسلامية دون ان يكون الاسلام منطلقا لها بل هو روحها وجوهرها الخالد كما اننا لانستطيع ان ننكر اثر المحيط الثقافي الخارجي على نشاتها وعلى الخصوص الفلسفة اليونانية اذن الفلسفة الاسلامية في نشاتها انبنت على عوامل ذاتية وتفتحت على عوامل خارجية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق